فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{قال الملأ الذين استكبروا من قومه} أي عتَوْا وتكبروا، استئنافٌ كما سلف وقرئ بالواو عطفًا على ما قبله من قوله تعالى: {يا قوم} الخ، واللامُ في قوله تعالى: {للذين استضعفوا} للتبليغ وقوله تعالى: {لمن آمن منهم} بدلٌ من الموصول بإعادة العاملِ بدلَ الكلِّ إن كان ضميرُ منهم لقومه، وبدلَ البعضِ إن كان للذين استُضعفوا على أن مِن المستضعفين مَنْ لم يؤمن، والأولُ هو الوجهُ، إذ لا داعيَ إلى توجيه الخطابِ أولًا إلى جميع المستضعفين مع أن المجاوبةَ مع المؤمنين منهم على أن الاستضعافَ مختصٌّ بالمؤمنين، أي قالوا للمؤمنين الذين استَضْعفوهم واسترذلوهم: {أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه} وإنما قالوه بطريق الاستهزاءِ بهم {قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون} عدَلوا عن الجواب الموافِقِ لسؤالهم بأن يقولوا: نعم أو نعلم أنه مرسلٌ منه تعالى مسارعةً إلى تحقيق الحقِّ وإظهارِ ما لهم من الإيمان الثابتِ المستمرِّ الذي تنبىء عنه الجملةُ الاسميةُ وتنبيهًا على أن أمرَ إرسالِه من الظهور بحيث لا ينبغي أن يُسألَ عنه، وإنما الحقيقُ بالسؤال عنه هو الإيمانُ به. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ} أي الأشراف الذين عتوا وتكبروا، والجملة استئناف كما مر غير مرة.
وقرأ ابن عامر {وَقَالَ} بالواو عطفًا على ما قبله من قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْم} [الأعراف: 73] الخ، واللام في قوله سبحانه: {لِلَّذِينَ استضعفوا} أي عدوا ضعفاء أذلاء للتبليغ كما في {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ} [القلم: 28]، وقوله تعالى: {لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ} بدل من الموصول بإعادة العامل بدل الكل من الكل كقولك مررت بزيد بأخيك، والضمير المجرور راجع إلى قومه.
وجوز أن يكون بدل بعض من كل على أن الضمير للذين استضعفوا فيكون المستضعفون قسمين مؤمنين وكافرين، ولا يخفى بعده، والاستفهام في قوله جل شأنه {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ} للاستهزاء لأنهم يعلمون أنهم عالمون بذلك ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر كما حكى سبحانه عنهم بقوله: {قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} فإن الجواب الموافق لسؤالهم نعم أو نعلم أنه مرسل منه تعالى.
ومن هنا قال غير واحد: إنه من الأسلوب الحكيم فكأنهم قالوا: العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه ولا شبهة تدخله لوضوحه وإنارته وإنما الكلام في وجوب الإيمان به فنخبركم أنا به مؤمنون.
واختار في الانتصاف أن ذلك ليس إخبارًا عن وجوب الإيمان به بل عن امتثال الواجب فإنه أبلغ من ذلك فكأنهم قالوا: العلم بإرساله وبوجوب الإيمان به لا نسأل عنه وإنما الشأن في امتثال الواجب والعمل به ونحن قد امتثلنا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ}.
عَدَل الملأُ الّذين استكبروا عن مجادلة صالح عليه السّلام إلى اختبار تصلّب الذين آمنوا به في إيمانهم، ومحاولة إلقاء الشكّ في نفوسهم، ولما كان خطابهم للمؤمنين مقصودًا به إفساد دعوة صالح عليه السلام كان خطابهم بمنزلة المحاورة مع صالح عليه السّلام، فلذلك فصلت جملة حكاية قولهم على طريقة فصْل جُمل حكاية المحاورات، كما قدّمناه غير مرّة آنفًا وفيما مضى.
وتقدّم تفسير الملأ قريبًا.
ووَصْفُهم بالذين استكبروا هنا لتفظيع كبرهم وتعاظمهم على عامة قومهم واستذلالهم إياهم.
وللتّنبيه على أنّ الذين آمنوا بما جاءهم به صالح عليه السلام هم ضعفاء قومه.
واختيار طريق الموصولية في وصفهم ووصففِ الآخرين بالذين استضعفوا لما تُومىء إليه الصّلة من وجه صدور هذا الكلام منهم، أي أن اسكبارهم هو صارفهم عن طاعة نبيئهم، وأنّ احتقارهم المؤمنين هو الذي لم يُسغ عندهم سبقَهم إياهم إلى الخير والهدى، كما حكى عن قوم نوح قولهم: {وما نراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلنا باديَ الرأي وما نرى لكم علينا من فضل} [هود: 27] وكما حكى عن كفّار قريش بقوله: {وقال الذين كفروا للّذين آمنوا لو كان خيرًا مَا سبقونا إليه وإذْ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} [الأحقاف: 11]، ولهذا لم يوصفوا بالكفر كما وصف به قوم هود.
والذين استُضعفوا هم عامّة النّاس الذين أذلّهم عظماؤهم واستعبدوهم لأنّ زعامة الذين استكبروا كانت قائمة على السّيادة الدّنيوية الخلية عن خلال الفضيلة، من العَدل والرأفة وحبّ الإصلاح، فلذلك وصف الملأُ بالّذين استكبروا، وأطلق على العامة وصف الذين استُضعفوا.
واللاّم في قوله: {للذين استضعفوا} لتعدية فعل القول.
وقوله: {لمن آمن منهم} بدل من {للذين استضعفوا} بإعادة حرف الجرّ الذي جرّ بمثله المبدل منه.
والاستفهام في {أتعلمون} للتشكيك والإنكار، أي: ما نظنّكم آمنتم بصالححٍ عليه السّلام عن علم بصدقه، ولكنّكم اتَّبعتموه عن عمى وضلال غير موقنين، كما قال قوم نوح عليه السّلام: {وما نَراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي} [هود: 27] وفي ذلك شَوب من الاستهزاء.
وقد جيء في جواب {الذين استضعفوا} بالجملة الاسميّة للدّلالة على أنّ الإيمان متمكّن منهم بمَزيد الثّبات، فلم يتركوا للذين استكبروا مطمعًا في تشكيكهم، بلْه صرفهم عن الإيمان برسولهم.
وأكّد الخبر بحرف إنّ لإزالة ما توهّموه من شكّ الذين استكبروا في صحّة إيمانهم، والعدول في حكاية جواب الذين استضعفوا عن أن يكون بنعم إلى أن يكون بالموصول صلته لأن الصلة تتضمن إدماجًا بتصديقهم بما جاء به صالح من نحو التوحيد وإثبات البعث، والدلالة على تمكنهم من الإيمان بذلك كله بما تفيده الجملة الاسمية من الثبات والدوام وهذا من بليغ الإيجاز المناسب لكون نسج هذه الجملة من حكاية القرآن لا من المحكي من كلامهم إذ لا يظن أن كلامهم بلغ من البلاغة هذا المبلغ، وليس هو من الأسلوب الحكيم كما فهمه بعض المتأخرين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)}.
ونعرف أن هناك سادة، وهناك أتباعًا. ومن قبل قال الحق: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا...} [البقرة: 166].
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها حوار بين السادة وبين المستضعفين الذين لا جاه لهم لا جبروت يُحافظ عليه، ورأوا دعوة الإِيمان ووجدوا فيها النفع لهم فأقبلوا عليها، أما الملأ وهم السادة الأشراف الأعيان الذين يملأون العين هيبة، والقلوب مهابة فقد قالوا لمن آمن من المستضعفين- لأن هناك مستضعفين ظلوا على ولائهم للكفر- قال هؤلاء الملأ من المستكبرين لمن آمن من المستضعفين: {... أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قالوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 75].
وعندما سمع المستكبرون قول المؤمنين من المستضعفين. فماذا قال الملأ المستكبرون؟
يقول الحق: {قَالَ الذين استكبروا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ...}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {قَالَ المَلأُ} قرأ ابنُ عامرٍ وحدَهُ {وَقَال} بواو عطف نسقًا لهذه الجملة على ما قبلها، وموافقة لمصاحفِ الشَّام، فإنها مرسومة فيها، والباقون بحذفها: إما اكتفاء بالربط المعنوي، وإمّا لأنَّهُ جواب لسؤال مقدَّر كما تقدَّم، وهذا موافقة لمصاحفهم، وهذا كما تقدَّم في قوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} [الأعراف: 43] إلا أنَّهُ هو الذي حذف الواو هناك.
قوله: {الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا}.
السين في {اسْتَكْبَرُوا} و{اسْتُضْعَفُوا} يجوز أن تكون على بابها من الطلب، أي: طلبوا- أولئك- الكِبْرَ من أنفسهم ومن المؤمنين الضعف.
ويجوزُ أن يكون اسْتَفْعَلَ بمعنى: فعل كَعَجِبَ واسْتَعْجَبَ.
واللاَّم في {الذِينَ اسْتَضْعَفُوا} للتبليغ، ويضعف أن تكون للعلّة، والمراد بالذين استكبروا الرّؤساء، وبالذين استضعفوا المساكين.
قوله: {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} بدلٌ من {الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} بإعادة العامل، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ بدل كلٍّ من كُلٍّ، إن عاد الضَّمير في {مِنْهُم} على قومه، ويكون المستضعفون مؤمنين فقط، كأنَّهُ قيل: قال المستكبرون للمؤمنين من قوم صالح.
والثاني: بدلُ بعض من كلٍّ، إنْ عاد الضَّميرُ على المستضعفين، ويكون المستضعفون ضربين: مؤمنين وكافرين، كأنَّهُ قيل: قال المستكبرون للمؤمنين من الضُّعَفَاءِ دون الكَافِرينَ من الضُّعفاء.
وقوله: {أتَعْلَمُونَ} في محل نصب بالقول.
و{مِن رَّبِّهِ} متعلق بـ {مُرْسَلٌ}، و{من} لابتداء الغاية مجازًا، ويجوز أن تكون صفةً فتتعلق بمحذوف.
واعلم أنَّ المستكبرين لمَّا سألوا المُسْتَضْعفين عن حال صالح وما جاء بهن فأجاب المُسْتَضْعَفُون بقولهم: إنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ صالح مؤمنون، أي: مُصَدّقون، فقال المستكبرون: بل نحن كافرون بما آمنتم به، أي: بالذي جاء به صالح.
قوله: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ} متعلق بـ {مُؤمِنُونَ} قُدِّم للاختصاص والاهتمام وللفاصلة. اهـ.

.تفسير الآية رقم (76):

قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)}

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{قال الذين استكبروا} أي في جوابهم معبرين بما يدل على المخالفة لهم والمعاندة {إنا بالذي} ووضعوا موضع {أرسل به}- ردًا لما جعلوه معلومًا وأخذوه مسلمًا {آمنتم به} أي كائنًا ما كان {كافرون}. اهـ.

.قال الفخر:

وقال المستكبرون: بل نحن كافرون بما جاء به صالح، وهذه الآية من أعظم ما يحتج به في بيان أن الفقر خير من الغنى، وذلك لأن الاستكبار إنما يتولد من كثرة المال والجاه، والاستضعاف إنما يحصل من قلتهما، فبين تعالى أن كثرة المال والجاه حملهم على التمرد، والإباء، والإنكار، والكفر وقلة المال والجاه حملهم على الإيمان، والتصديق والانقياد، وذلك يدل على أن الفقر خير من الغنى. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون} فالذي آمنتم به هو من حيث المعنى بما أرسل به لكنه من حيث اللفظ أعمّ قصدوا الردّ لما جعله المؤمنون معلومًا وأخذوه مسلمًا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قال الذين استكبروا}.
أعيد الموصولُ مع صلته مع كفاية الضميرِ إيذانًا بأنهم قد قالوا ما قالوه بطريق العتُوِّ والاستكبار {إنا بالذي آمنتم به كافرون} وإنما لم يقولوا: إنا بما أرسل به كافرون إظهارًا لمخالفتهم إياهم وردًا لمقالتهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ الذين استكبروا}.
استئناف كما تقدم، وأعيد الموصول مع صلته مع كفاية الضمير إيذانًا بأنهم قالوا ما قالوه بطريق العتو والاستكبار {إِنَّا بالذى ءامَنتُمْ بِهِ كافرون} عدول عن مقتضى الظاهر أيضًا وهو أنا بما أرسل به كافرون، وفائدته كما قالوا الرد لما جعله المؤمنون معلومًا وأخذوه مسلمًا كأنهم قالوا: ليس ما جعلتموه معلومًا مسلمًا من ذلك القبيل، وقال في الانتصاف عدلوا عن ذلك حذرًا مما في ظاهره من إثباتهم لرسالته وهم يجحدونها، وليس هذا موضع التهكم ليكون كقول فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] فإن الغرض إخبار كل واحد من المؤمنين والمكذبين عن حاله فلذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الإيمان بالرسالة احتياطًا للكفر وغلوًا في الإصرار. اهـ.